الفترات التاريخية

Banner Image

الفترات التاريخية

مسار التنقل

ناشر الأصول

حضارة دولة الإمـارات العربية المتحدة

حضارة دولة الإمـارات العربية المتحدة

إنّ الأمة التي لا تعرف ماضيها وتهمل تدوينه لن تتمكّن من قيادة حاضرها ولا صياغة مستقبلها. وهو ما أكّده القائد المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان طيّب الله ثراه، حين قال: "من لا يعرف ماضيه لا يستطيع أن يعيش حاضره أو مستقبله"،

ونـحن في دولة الإمارات العربية المتحدة "لسنا أمّةً طارئةً على التاريخ" كما قال صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، فتاريخ الوطن ممتد لما يقرب من سبعة آلاف سنة؛ وفق ما أثبتته النقوش والرسوم واللُّقى الأثرية للبعثات العالمية منذ مطلع الخمسينيات من القرن المنصرم حتى تاريخه. ويمكن تقسيم الحقب التاريخية التي مرّت بها الدولة وفق ما يلي:

أولاً: حضارة الإمارات في عصور ما قبل التاريخ:

بدأت التنقيبات الأثرية في دولة الإمارات العربية المتحدة باكتشاف مقابر أم النار في أبوظبي، ما كان له أثر كبير في إماطة اللثام عن العمق التاريخي للدولة. إذْ أبانَت المستكشفات الأثرية المتنوعة في هذه الجزيرة عن حضارات قديمة ازدهرت في المنطقة ردحاً من الزمن؛ بدءاً من العصر الحجري الحديث أو المتأخر، (6000 ق. م - 3500 ق. م) وانتهاءً بالعصر الحديدي (1300 ق. م – 300 ق. م). وبيان ذلك وفق ما يلي:

أ‌- حضارة الإمارات في العصر الحجري المتأخر (6000 ق. م – 3500 ق. م)

في هذه الحقبة عُثر على أوّل دليل بوجود مستوطنة سكانية في منطقة الإمارات، واستكشفت فيها آثار لجماعاتٍ بدويّة عاشت على الصيد وتجميع النباتات، إضافة إلى مقابر جماعية عدّة في جبل "البحيص" بالشارقة، وأدوات ورؤوس حراب في جزيرتَي "دلما" و"مروح" بأبوظبي.
وقد تميزت هذه الحقبة بظهور الأواني الفخارية، بدلالة ما استكشف منها بكثرة في الشارقة، وأم القيوين ورأس الخيمة، وأبوظبي. ويُعتقد أنّ آثاراً من هذا النوع تعود إلى ما كان يُسمّى بـ"فترة العُبيد". التي تُعد جزءاً من العصر الحجري المتأخّر، وتعود بداياتها إلى أواخر الألف السادس قبل الميلاد.

ب - حضارة الإمارات في العصر البرونزي (3200 ق. م – 1300 ق. م)

وتنقسم هذه الحضارة إلى ثلاث حقب زمنية:
1-    حقبة جبل حفيت:
تمتد هذه الحقبة من 3200 ق. م إلى 2500 ق. م، وسُمِّـيَت بهذا الاسم نسبة إلى المدافن التي عُثر عليها في "جبل حفيت" قرب منطقة العين التابعة لإمارة أبوظبي.
وتمتاز المدافن المكتشفة في هذه الحقبة بكونها جماعية وصغيرة، وشبيهة بخلايا النحل، ويتزامن تاريخها مع ازدهار صناعة النحاس. أما في مجال الزراعة فقد عُثِر في منطقة "العين" على آثارٍ لمستوطنة زراعية ضخمة كانت تقوم على زراعة الذرة والقمح.
إنّ أهم الآثار المكتشَفَة في هذه الحقبة هي: المقابر الجماعية والمستوطنات القديمة في "جبل حفيت" ومنطقة "الهيلي" في العين بأبوظبي، وكذلك المقابر الجماعية في جبل "إميلح" قرب منطقة «الذيد» بالشارقة.
2-    حقبة أم النار:
تمتد هذه الحقبة من 2500 ق. م إلى 2000 ق. م. وجاءت شهرتها من اكتشاف آثار جزيرة "أم النار" بأبوظبي في منتصف الخمسينيات من القرن المنصرم.
لقد عثر في مواقع "أم النار" على نـحو أربعين تلاًّ دفيناً، والكثير من القبور مستديرة الشكل، ومدافن جماعية عدّة، كما وجدت آثار لمستوطنة قريبة من هذه المدافن بها مساكن مبنية من الحجر، وتحوي قطعاً من الأواني الحجرية شبيهة بالأواني الجنائزية، وأدوات أخرى كانت تستخدم في الطبخ، ما يدل على أن هذه المساكن تعود لفترة القبور ذاتها.
استطاعَت البعثات الأثرية العثورَ على بيت يضم سبع غرف مستطيلة الشكل، وعلى كسرات فخارية من نوع الأوعية الحمراء، وعظاماً للماشية، والأسماك، والسلاحف، والجمال، وأدوات نـحاسية، تدل جميعها على مدى اعتماد إنسان تلك الحقبة على مهنة الصيد. ومثّلَت حقبة "أم النار" ذروة حضارة العصر البرونزي؛ إذْ شهدت قيام روابط تجارية متينة مع حضارة ما بين النهرين وحضارة "هرابا" في وادي السند -باكستان حاليًّا- واتسمت قبورها الجماعية بضخامة حجمها، وبكونها دائرية ومبنية من الحجارة. واستوعبت هذه الحقبة أيضاً ما يُجاوز 200 مدفنٍ في أنـحاء متفرقة من الإمارات.
تمكنت البعثات الأثرية من اكتشاف آثار مشابهة لآثار "أم النار" في شمال الإمارات مثل: "المويهات" في عجمان، و"الأبرك" في أم القيوين، و"البدية" في الفجيرة، و"كلباء" في الشارقة. و"شمل" في رأس الخيمة.

3-    حقبة وادي سوق:
تمتد هذه الحقبة من 2000 ق. م إلى 1300 ق. م. وسميت بهذا الاسم نسبة إلى أحد المواقع في "وادي سوق" بين العين وساحل عمان. وأهم المكتشفات الأثرية في هذه الحقبة هي العثور على عدد من المقابر ورؤوس الرماح، والأواني والجواهر المشغولة من الذهب والفضة في مناطق: "شمل" برأس الخيمة، و"خور فكان" و"جبل البحيص" بالشارقة، و"القصيص" بدبي. وتدلنا تلك المكتشفات على تراجع حضاري في هذه الفترة؛ إمّا للتغيرات المناخية القاسية، أو لتوقف التجارة الخارجية للنحاس إلى بلاد ما بين النهرين.

ج- حضارة الإمارات في العصر الحديدي (1300 ق. م – 300 ق. م)

تمتد هذه الحقبة من 1300ق. م إلى 300 ق. م. وتدّلنا المكتشفات الأثرية بأن منطقة الإمارات إبّانها كانت في أوج ازدهارها وتطورها الحضاري. فقد تميّزت بظهور أول استخدام لنظام "الأفلاج" الذي أتاح استخراج المياه الجوفية ومواصلة الزراعة في مناخ جاف. وشهدت أول ظهور للكتابة، وبلغ عدد المواقع الأثرية العائدة لها 26 موقعاً موزعاً على مناطق الإمارات كافّة.
أمّا أهم الآثار المكتشفة في هذه الحقبة فهي: "قُرى تستخدم نظام الأفلاج" في مناطق: "رميلة وجرن بنت سعود" في العين بأبوظبي، و"الثقيبة وأم صفاة" في الشارقة، ومستوطنات ضخمة مُحصّنة في مناطق: "مويلح" و"تل أبرق" في أم القيوين والشارقة.

العهد البرتغالي

العهد البرتغالي

ثانياً: حضارة الإمارات في عهود القوى الغربية بمنطقة الخليج

 


كان التجّار المسلمون، منذ ظهور الإسلام حتى القرن السادس عشر، يسيطرون على تجارة الشرق برًّا وبحراً. وكان أهالي البندقية يحظون بالجزء الأكبر من تلك التجارة المرموقة التي ملأت البحر الأحمر من البرّ إلى موانئ البحر الأبيض المتوسّط، بينما كان أهالي جنوا يحصلون على الجزء الأصغر منها. وفيما بدأت جنوا بعد عام 1381م بالانحدار، استمرّت البندقية تتمتّع بسيادتها كقائد بحري في البحر الأبيض المتوسّط دون منافس. لقد أدّى وصول البرتغاليين إلى المحيط الهندي عام 1498م إلى خفض التدفّق التجاري إلى البحر الأبيض المتوسّط، ما أثّر سلباً في البندقية والقوتين المتنافستين: مصر وتركيا أيضاً.

استوحى البرتغاليون طموحاتهم في القرن الخامس عشر- المتمثّلة بالنشاطات التجارية والعسكرية- من روح الاستكشاف لديهم، إضافة إلى مهمّتهم في نشر الديانة المسيحية؛ تلك النشاطات مهدّت الطريق أمام مزيد من التوسّع والاستعمار. ومهما يكن، فقد دفعت رغبة التاج البرتغالي للسيطرة التامّة على التجارة المرموقة في المحيط الهندي، ولاسيّما تجارة التوابل، ونزعها من قبضة التجّار المسلمين الذين كانوا يسيطرون عليها. كان أهالي شبه جزيرة أيبيريا الذين يتّسمون بالشجاعة وحبّ المغامرة، أوّل شعب أوروبي يدخل المحيط الهندي، والخليج العربي؛ لموقعهم الجغرافي المميّز، وتطوّر صناعة بناء السفن لديهم.

بدأ التوسّع والانتشار البرتغالي في المحيط الهندي بحملاتهم في ساحل إفريقيا الغربي جنوب الصحارى؛ للحصول على السلع والعبيد. وقد مثّلت رحلة "بارتولوميو دياس" حول رأس جنوب إفريقيا خلال عامي 1487-1488م ، العمل قبل الأخير من سلسلةٍ من الأحداث التاريخية. وفي الوقت نفسه تقريباً، كانت البرتغال قد حصلت من "بيدرو دا كوفيلهام" الذي قام برحلتين لاستكشاف وتفحّص التجارة في المحيط الهندي، على معلومات حيوية وأساسية عن مدى ثراء النظام التجاري في المحيط الهندي والخليج العربي. وخلال قيامه برحلته الثانية من القاهرة إلى الخليج العربي، زار هرمز وعدن وجدّة، وأرسل إلى البرتغال تقريراً مفصّلاً عن التجارة في المحيط الهندي.

افتتح الرحالة الاستكشافي الشهير فاسكو دا غاما الطريق البحري إلى الهند عام 1498م، برحلته البارزة حول رأس الرجاء الصالح، ونزوله في ميناء "كاليكوت" الهندي. وقد أدّت تلك الحادثة الفريدة إلى إحداث ثورة على التجارة الشرقية، وتزويد المحيط الهندي والخليج العربي بالقوى العسكرية، وتثبيت سيطرة البرتغاليين هناك. وربّما كانت تلك الحادثة التي عملت على فتح الطريق التجاري البحري إلى الهند الوحيدة من نوعها، إذ لم يجرِ خلال العصور الوسطى حادثة مشابهة لها تأثير بعيد المدى في العالم المتحضّر. ظلّت التجارة البحرية من الهند عبر الطرق التجارية في الخليج، والبحر الأحمر، حتى اليوم في سيطرة العرب. لقد نجح العرب منذ زمن بعيد في المحافظة على تلك العلاقة التجارية المربحة دون توقّف، كما كان البحّارة البارزون في ذلك الوقت من عمان والإمارات الساحلية. وكان المحيط الهندي والخليج العربي - في تلك الفترة - ممرّاً بحريًّا آمناً وخالياً من السلاح، إذ لم تكن الجماعات التجارية تتوق أبداً إلى السيطرة العسكرية.

وما لبث أن اتّضح حصر إستراتيجية البرتغال في المحيط الهندي والخليج العربي باحتكار التجارة فيها، وهذا يعني العمل على تدمير الطور التجاري الإسلامي الذي كان يشكّل فترة مميّزة، والسيطرة بالتالي على الطرق التجارية باحتلال الموانئ الإستراتيجية. كانت رحلة "دا غاما" قد رفعت من مكانة البرتغال حتّى إنّ الملك مانويل الأوّل حصل على لقب"سيّد الغزوات والبحار والتجارة في الحبشة، وشبه الجزيرة العربية، وفارس، والهند" وعزم على هدم وتدمير السيادة العربية التجارية بإرسال قوّة مسلّحة. لقد حدث اتباع البرتغاليين لأسلوب البحر الأبيض المتوسط التجاري والأساليب الحربية برّاً وبحرا،ً مباغتة وبشكل مفاجئ كليًّا لأهالي المنطقة.

تميّزت فترة دخول البرتغاليين وإنشاء الإمبراطورية البرتغالية "إيستادو دا إنديا" Estado da India في أقاليم آسيا البحرية، في القرن السادس عشر، بثلاث مراحل؛ فقد شقّوا طريقهم في المرحلة الأولى من عام 1500م وحتى نهاية حكم ألفونسو دي ألبوكيرك عام 1515م، للوصول إلى المحيط الهندي وخليج عمان، وثبّتوا أنفسهم هناك بقوة السلاح، أما المرحلة الثانية والتي دامت من عام 1515م وحتى نحو عام 1560 م، فقد توصّلت خلالها النيابة الملكية في جوا إلى أوج قوّتها البحرية، كما تمكّنت من وضع احتكار نصفي في تجارة التوابل قيد التنفيذ. لقد سعى البرتغاليون، بواسطة سلسلة من المستوطنات المحصّنة في المحيط الهندي، يساندها دورية بحرية منتظمة، إلى تعزيز احتكارهم للتجارة بإلزام التجار المحليين شراء تصاريح مرور لضمان سلامتهم "كارتاز Cartazes "من "إيستادو دا إنديا" Estado da India  ودفع الرسوم الجمركية. وخلال المرحلة الأخيرة من الانحدار، واجه البرتغاليون مقاومة أهلية طبيعية ومنافسة خارجية من قوى أوروبية أخرى.

شهدت العقود الأولى من القرن السادس عشر تأسيسَ الإمبراطورية البرتغالية، بعزم واحد من قبل لشبونة للسيطرة على أكثر الموانئ تحقيقاً للربح في شرق إفريقيا، وملبار، وكنكان، والخليج، ومضيق ملقا؛ ففي عام 1507م استولى ألبوكيرك على سوقطرة، لتصبح قاعدة لسدّ الطريق عن البحر الأحمر، ومن ثمّ حوّل كلّ اهتمامه إلى هرمز، التي تسيطر على مدخل الخليج العربي، لانتزاع كلا هذين الطريقين التجاريين المهمين من قبضة المسلمين. ومنذ عام 1507م، تمكّن البرتغاليون من تشديد الخناق على تجارة عمان البحرية، حين سيطروا على عدة موانئ ومدن تجارية هامة في الخليج وتشمل جلفار (إمارة رأس الخيمة في دولة الإمارات العربية المتحدة) وخصب، إضافة إلى المدن الساحلية الواقعة بين رأس الحدّ وشبه جزيرة مسندم، وتشمل موانئ: صور، وقريات، ومسقط، ومطرح، وسيب، وصحار، وخورفكان، ودبا، وليما.

وفيما رحّبت قلهات- الواقعة على ساحل عمان- بألبوكيرك، أبدت كلّ من قريات ومسقط مقاومة ضدّه، ما جعلهما تتعرّضان لعمليات السلب والنهب؛ ورغم أنّ صحار كانت محميّة بحصون وأبراج كبيرة وضخمة إلاّ أنها استسلمت دون مقاومة من جانبها. من ناحية أخرى لقيت مدينة خورفكان -وهي مدينة في إمارة الشارقة بدولة الإمارات العربية المتحدة، وكانت آنذاك ميناءً يمتاز بالازدحام والازدهار- مصيرَ مسقط نفسه. فقد استُوليَ على المدينة وحرقت بحيث لم يتبقّ فيها أيّ مبانٍ قائمة، كما تعرّضت النساء والأطفال إلى الأسْر، وقُتل العديد من الرجال. وصف ألبوكيرك خورفكان بأنها "مكان كبير جدًّا"، وأنّها مدينة تحتوي على منازل جيدة، كان يعيش فيها عدد كبير من تجّار الهند الأغنياء، وكان هناك أيضاً إسطبلات كبيرة تحتوي على الخيول التي كانت تصدّرها إلى الهند. وفي داخلها أراضٍ وممتلكات كثيرة عليها منازل مبنية بشكلٍ جيّد، وكان فيها الكثير من أشجار الفاكهة والخضراوات، وفيها عدد كبير من بِرَك المياه التي كانت تستخدم لأغراض الريّ. وفي الميناء عدد من المراكب ذات ثلاث صوارٍ لصيد السمك، والشباك أيضاً.


كان وصول البرتغاليين إلى المنطقة نقطة تحوّل في تاريخ المحيط الهندي والخليج العربي لأكثر من سبب؛ فقد سعوا خلال النصف الأوّل من القرن السادس عشر، إلى تثبيت سيادتهم التنفيذية في المحيط الهندي بإبعاد التجّار المسلمين، وفرضوا بوجود سفنهم البحرية المسلّحة نظام شراء تصاريح المرور البحرية "الكرتاز cartazes "على سفن التجّار المسلمين غير المسلّحة. لقد حدّد تحوّل التجارة الشرقية من أيدي عرب الخليج، الذين كانوا لقرون عديدة بارعين في التجارة البحرية وخوض البحار، بدايةَ الانحدار الاقتصادي في المنطقة. وعلى الصعيد الأوروبي تمكّن البرتغاليون من تحويل تجارة التوابل من المراكز التجارية الرئيسة التقليدية في الإسكندرية والبندقية إلى لِشبونة وأنتويرب لتوزيعها في سائر أنحاء أوروبا.

لعب البرتغاليون في الواقع دوراً مميّزاً ليس فقط في تحويل النظام التجاري في المحيط الهندي، بل من حيث ميزته الأساسية وتكوينه أيضاً، مما كان عليه بين عامي 600م و1500م. كان البرتغاليون قد استولوا على دَور الوسيط التجاري بين موانئ المحيط الهندي من أعضاء كانوا يمثلّون الطور الطبيعي الفطري في التجارة؛ وما لبثت أن تأثّرت مجتمعات العرب المحليين التجارية، والمجتمعات الأخرى في المحيط الهندي بتلك التحوّلات. وتحت تأثير انتهاكاتهم وسيطرتهم، تركت المجتمعات العربية التجارية في الخليج والساحل، حيث تراجعوا مؤقتاً نحو المناطق الداخلية، كما تعرّضت عدة مدن تجارية في عمان وسائر مدن الخليج العربي للانحدار.

أدّت عدة عوامل مشتركة خلال القرن السابع عشر، إلى إضعاف سيطرة البرتغاليين على الساحل العربي، ومن ثَمّ انحدار سيادتهم في الخليج، وكان استمرار مقاومة موانئ الخليج ضدّ الاحتلال البرتغالي وتشديد الخناق عليهم من المجتمعات الاقتصادية في المنطقة، من أهمّ الأسباب التي أدّت إلى ذلك، وقبل ذلك بكثير كانت قد قامت في عامي 1521م و1526م ، ثورتان رئيستان ضدّ سيطرة البرتغاليين عبر الساحل العربي، اشتركت فيهما كلّ من هرمز، والبحرين، وقلهات، وصحار، ومسقط. وفي عام 1602م، تمكّن شاه عبّاس الأوّل، حاكم فارس، من طرد البرتغاليين من البحرين، واستُوليَ على هرمز عام 1622م نتيجة عملية عسكرية إنجليزية - فارسية مشتركة. كان سقوط هرمز للبرتغاليين هزيمة رمزية لإمبراطورية البرتغاليين الهندية "إيستادو دا إنديا" .Estado da India

استولى الفرس في السنة نفسها، على خورفكان، ولكن ما لبث الأميرال البرتغالي راي فرير دا أندرادا أن طردهم منها عام 1623م، وبعد ذلك بفترة قصيرة تمكّنت قوة عربية بقيادة إمام اليعاربة الأوّل ناصر بن مرشد، من طرد راي فرير نفسه. لقد خَرَجَت مسقط وساحل عمان كليًّا من قبضة البرتغال نتيجة لقوة وطنية فرضتها نشأة تلك السلالة العربية الجديدة، وتمكّنت قوات اليعاربة عام 1633م بقيادة ناصر بن مرشد، من طرد البرتغاليين من جلفار ودبا كذلك، حيث كان البرتغاليون قد بنوا قبل ذلك، حصوناً وقلاعاً لهم، كما استعادوا صحار عام 1643م. وقد استمرّ القتال إلى أن استعيدت مسقط آخر معاقل البرتغاليين عام 1650م، تحت قيادة الإمام الجديد سلطان بن سيف. ومع نهاية القرن السادس عشر بدأت كلّ من بريطانيا وهولندا تبدي اهتماماً بإقامة روابط وعلاقات تجارية مباشرة مع الشرق، وكان وصول السفن البريطانية والهولندية في المحيط الهندي كمنافسين تجاريين لتحقيق السيادة على البحر، قد شكّل أكبر تحدٍّ كان على البرتغاليين أن يواجهوه في آسيا. لقد برهن هذا التنافس على المدى الطويل نهاية قوّتهم وازدهارهم الاقتصادي، وأدّى إلى انحلال وتمزيق إمبراطوريتهم الشرقية.

ورغم انحدار قوة البرتغاليين في المحيط الهندي والخليج العربي، إلاّ أنّ سجلاتهم التاريخية وبعثاتهم تركت وراءها الكثير من الروايات حول تقدّمهم في الشرق، فثمّة الكثير من الوثائق المطبوعة منها والمخطوطة تلقي ضوءاً قويّاً على الشؤون العربية المحلية المعاصرة، كما تحتوي على معلومات مهمة عن الأماكن والأشخاص والأحداث المتعلّقة بدولة الإمارات العربية المتحدة الحديثة، وتعتبر رحلات "بيدرو تيكسيرا" The Travels of Pedro Teixiera، النصَّ الجغرافيَّ الرئيس خلال النصف الأوّل من القرن السابع عشر. كانت الإشارة الوحيدة لأم القيوين في القديم قد ظهرت فقط في كتاب بالبي الجواهري البندقي، وفي كتاب "دوارت باربوسا" الذي أشار إليها باسم "مالقويهون" .Malquehoan وظلّ البرتغاليون لمدة قرن ونصف تقريباً يفرضون سيادتهم المطلقة على الخليج، ولكنّهم في الوقت نفسه ورغم مواجهتهم تحديات كثيرة، واجهوا تحدياً كبيراً من الغزو العثماني من الشرق الأوسط.

 لقد شكّل التنافس القائم بين العثمانيين وبين الصفويين الفرس -الذين كان البرتغاليون قد أقاموا سياسة من التعاون المشترك معهم ضدّ العثمانيين - عائقاً كبيراً أمامهم لطرد البرتغاليين طرداً دائماً من الخليج العربي أو المحيط الهندي. وبقيام ثورة اليعاربة في بداية القرن السابع عشر، تحرّرت عمان أخيراً من سيطرة البرتغاليين.

جلفار أشهر المناطق المعروفة جيداً في المنطقة، تظهر ظهوراً بارزاً في كثير من الوثائق الأوروبية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وأكثرها أهمية الروايات المجيدة عن هذه المدينة، الميناء، في الوثائق والروايات البرتغالية. ويعتبر كتاب "دوارت باربوسا" The Book of Duarte Barbosa من أقدم المصادر التي ورد فيها وصف جلفار على أنّها "مكان كبير جداً فيها العديد من الناس والأعيان والملاّحين الذين كانوا يعملون في صيد "الجفار" أو اللآلئ الصغيرة والعديد من اللآلئ الكبيرة التي كان تجّار هرمز يقصدونها لشراء تلك اللالئ". بعدئذٍ كان قد أشير في المصدر نفسه إلى جلفار أو "راكويما" Racoima -رأس الخيمة حديثاً- على أنّها "مكان كبير جداً".

 أشار الرحّالة البرتغالي "بيدرو تيكسيرا" إلى صناعة اللؤلؤ في جلفار حين كتب يقول: إنّ أسطولاً مكوّناً من خمسين مركباً كان يبحر من هناك في شهري يوليو وأغسطس من كل عام لصيد اللآلئ على شواطئ قطر والبحرين. وأضاف قائلاً: إنّه قد نُسِب إلى جلفار نوع من اللآلئ كان يُعثَر عليه في المياه الإقليمية. لقد ورد في كتاب "دي باروس" Decades بيانات تفصيلية عن العائدات والنفقات في هرمز تحت الاحتلال البرتغالي، كما أشار إلى أنّ منطقة جلفار كان تدفع مبلغ 7500 "أشرفي" وهو أكبر مبلغ دفعته آنذاك. وهناك أيضاً مواصفات ورسومات قديمة لعدد من الحصون البرتغالية التي أُسِّسَت في دبا، والبدية، وخورفكان، وكلبا التي هي حاليًّا أجزاء من دولة الإمارات العربية المتحدة.

 

العهد الهولندي

العهد الهولندي

حصل الهولنديون على امتياز في ميناء "المخا" اليمني على ساحل البحر الأحمر لفترة ما، إلاّ أنّ النجاح الذي حقّقوه مع الإنجليز في الخليج مقارنة بالبحر الأحمر، أكبر بكثير منه في الخليج. كانت خسارة البرتغاليين لـ "هرمز" عام 1622م، بدايةً لدخول الهولنديين والإنجليز الأسواقَ الشرق أوسطية لتكثيف تجارتهم في البصرة وغمبرون (بندر عباس)، وأصبحت بندر عبّاس في المئة والخمسين عاماً التالية مركزاً للنشاطات التجارية والسياسية الهولندية والبريطانية والفرنسية في الخليج. كان الهولنديون قد اكتسبوا في البداية معقلاً لهم في الخليج نتيجة لأعمالهم المشتركة مع البريطانيين، ولكن سرعان ما قويت المنافسة بين الدولتين عندما نقلت شركة الهند الشرقية الإنجليزية وكالتها في الخليج إلى بندر عباس بعد عام 1622م؛ وقد رفض الهولنديون دفع الرسوم الجمركية لهم، ولم يمضِ وقت طويل حتى أصبحت المحطة التجارية الهولندية في بندر عباس أكثر نشاطاً ونجاحاً من الإنجليز، وبَدَؤوا يتاجرون بالسكّر، والتوابل والأقمشة القطنية الهندية، والنحاس والحديد، في منطقة الخليج.

 أبرم الهولنديون اتفاقية مع الشاه الفارسي عباس الأوّل عام 1623م تتعلّق بتجارة الحرير، حصلوا بموجبها على حقّ التجارة الحرّة على الجانب الفارسي من الخليج مقابل شراء كمية محدّدة من الحرير سنويًّا من الملك. وإضافة إلى مركزهم الرئيس في بندر عباس، كان لدى الهولنديين عدد قليل من المكاتب الصغيرة عادة في أصفهان، وأحياناً في مواقع أخرى مثل: لار، وكيرمان، وبوشهر، وشيراز. ونتيجة لتجارتهم بالسلع الفارسية وخاصة الحرير بين عامي 1623 و1630، حقّقت شركة الهند الشرقية الهولندية أرباحاً هائلة، ما جعل التجارة الفارسية في ذلك الوقت أكثر ربحاً من أي وكالة هولندية أخرى في المحيط الهندي باستثناء باتافيا. وخلال القرن السابع عشر، كانت مكاتبهم الأخرى في البصرة ومسقط تمثّل أهمية اقتصادية ثانوية، ولم يكن فيها أحد من العاملين إلاّ خلال موسم التجارة.

لقد أصبح الهولنديون مع بداية القرن السابع عشر القوة البحرية السائدة في المحيط الهندي والخليج العربي. كان الفرس قد سمحوا للهولنديين والبريطانيين بممارسة التجارة في بلادهم، لأنّهم توقّعوا المساعدة العسكرية في توسيع نطاق طموحاتهم للسيطرة على المنطقة وفرض سيادتهم عليها؛ وبذلك التزم الإنجليز والهولنديون بتحالف من نوع معيّن مع فارس، كما اعتمدت مصالحهم الاقتصادية في الخليج على المزايا التجارية التي حصلوا عليها وضمنوها من فارس.

استمرّ نشاط شركة الهند الشرقية الهولندية VOC التجاري - بعد أن حقّقت استقلالها عن إسبانيا عام 1648م - نحو مئة عام من الأعمال التجارية والازدهار والنجاح دون التعرّض لأي إزعاج. كانت سيطرة العرب على مسقط بعد تحريرها من أيدي البرتغاليين عام 1650م حادثة أخرى لصالح الهولنديين، وقد أدّى وصول عدة سفن من هولندا إلى وكالتهم في غمبرون - بعد ذلك بفترة قصيرة - إلى مزيدٍ من أعمالهم التجارية جعلهم يتفوّقون مؤقتاً في تجارة الخليج. في غضون ذلك - وبينما كان الهولنديون على خلاف مع الفرس حول تجارة الحرير كما كانوا يسعون إلى التملّص وتجنّب دفع الرسوم- تلقّوا عرضاً من سلطان بن سيف، إمام مسقط، على الأرجح، لتغيير الطريق التجاري كليًّا، وكانت تلك الخطة تقضي بنقل البضائع بواسطة القوافل من قطيف- وهي منطقة ساحلية تقع شمال قطر، في طريق موازٍ للساحل عبر المناطق التابعة لبني ياس وبني خالد إلى ميناء معيّن خارج سيطرة البرتغاليين، إلاّ أنّ رئيس الوكالة الهولندية رفض ذلك العرض.

ومع اشتعال الحرب الإنجليزية الهولندية في أوروبا عام 1652م، فقد الإنجليز وكالاتهم التجارية في الخليج العربي في بندر عباس والبصرة لصالح الهولنديين، وأصبحت شركة الهند الشرقية الهولندية VOC بحصولها على تلك الوكالات، المزوّد الرئيسَ للتوابل في بلاد فارس والخليج العربي، حيث حقّقت نجاحاً تجاريًّا ملموساً هناك. وفي عام 1666م كان لشركة الهند الشرقية الهولندية VOC مقرّ في مسقط لفترة قصيرة من الزمن. وتؤكّد سجلاّت السِّلَع الواردة إلى بلاد فارس والخليج أنّ الهولنديين كان لهم دورٌ كبير في التجارة الآسيوية. لقد تمكّن الهولنديون مع حلول منتصف القرن السابع عشر، من طرد شركة الهند الشرقية من الجزء الأكبر من الخليج العربي، ومع حلول عام 1680م ثبّتوا أقدامهم في البصرة وبندر عباس.

وصل الهولنديون إلى المحيط الهندي لتأكيد حرية الملاحة في أعالي البحار، ودحضوا القرارَ البابوي بجعل المحيط الهندي في سيطرة البرتغاليين. وقد استمرّت شركة الهند الشرقية الهولندية VOC وشركة الهند الشرقية الإنجليزية - كالبرتغاليين من قبل- تلجأ إلى استخدام القوّة وسيلة للحصول على اتفاقيات تجارية وحقوق للوكالة في موانئ المحيط الهندي، كما أنّهم اتبعوا نظام البرتغاليين في إصدار تصاريح عبور "للحماية" لتسهيل تحقيق طموحاتهم التجارية على حساب المجتمعات التجارية المحلية في المحيط الهندي. لقد اتبع التجار الهولنديون والإنجليز نظام التجارة بين الموانئ، إضافة إلى تجارة التصدير التي كانت متبعة في المحيط الهندي، والتي أدّت بدورها إلى تصدير كميات هائلة من البضائع التجارية إلى الأسواق الأوروبية. وقد أدّى هذا الازدهار الناجم من التجارة إلى الدخول في عهد جديد في هولندا عُرف بـ"العهد الذهبي" والذي شهد على مدى النجاح الشامل والنموّ على صعيدي الفنون والصناعات اليدوية. وعلى الجانب الآخر، انحدرت العمليات التجارية البعيدة في الخليج ما أدّى إلى نهاية عهد مدن عُمان والخليج العربي التجارية القديمة، وإلى نهضة مدنٍ جديدة مثل مسقط، وبندر عباس، وبوشهر.

لقد ضعفت قوة الهولنديين، نتيجة للحرب الثلاثية التي قامت بينهم وبين الإنجليز والفرنسيين، مع حلول الخمسينيات من القرن الثامن عشر، ففقدوا بذلك معظم ممتلكاتهم ومستنداتهم التي كانت بين أيديهم في معظم أنحاء المحيط الهندي باستثناء الأرخبيل الإندونيسي، وضعفت سيطرة الشركة الهولندية VOC في الخليج على وكالاتهم في بوشهر وبندر عباس والبصرة نتيجة لمنافسة البريطانيين، ولزيادة الضرائب التي فرضها عليهم حاكم بوشهر، والعلاقات المتدهورة مع السلطات العثمانية. فكان أن أغلق الهولنديون تلك الوكالات عام 1753م.

ولكنّ الهولنديين حاولوا - بعد إغلاق تلك الوكالات الثلاث - المحافظةَ على مكانتهم في الخليج العربي ، فاحتلّوا جزيرة خَرْج التي قدّمها لهم مير ناصر من قبيلة الزعاب حاكم بندر رق العربي، وعمل الهولنديون على تقوية مكانتهم هناك بتشييد حصن ووكالة لهم، كما سيطروا على النشاطات الاقتصادية المختلفة التي كان يقوم بها السكّان العرب المحليون والتي تشمل صيد اللؤلؤ. وقد أدّت تلك النشاطات إلى مقاومة السكّان العرب المحليين بقيادة مير مهنا الذي نجح في تحرير جزيرة خَرْج من أيدي الهولنديين عام 1766م وتعتبر تلك الحادثة الأولى في تاريخ عرب الخليج يشار إليها في إحدى الصحف والتي تشير أيضاً وللمرّة الأولى إلى شيخ عربي. كان انتصار مير مهنا تحديداً لنهاية وجود الشركة الهولندية المتحدة VOC في الخليج العربي، إلاّ أنّ التجار الهولنديين ظلّوا يمارسون الأعمال التجارية بين المؤسّسات الهولندية في آسيا والخليج، واستمرّت أيضاً سفن النقل تبحر بكثرة بين مسقط وملابار الهولندية.

لم يؤدّ ظهور الأوروبيين في المحيط الهندي والخليج العربي إلى إحداث تغيير جذري في بناء التجارة الشرقية وتحوّلها فحسب، بل إنّه أضاف الكثيرَ أيضاً على الصعيدين التاريخي والجغرافي في الموضوع. وقد عملت السجلات الكثيرة لدى الشركات الهولندية والإنجليزية على إثراء المعلومات والمواد التوثيقية التي تركها البرتغاليون. ومع أنّ هذه الوثائق كانت تتناول بدرجة رئيسة النظام التجاري المعمول به في المحيط الهندي، لكنها كانت تحتوي أيضاً على مواصفات مفصّلة لمجتمع المنطقة ونظام الحكم فيها. فالوثائق الهولندية تشكّل أهمية خاصة لتاريخ دولة الإمارات العربية المتحدة؛ إذْ إنها تزخر بالمعلومات النفيسة التي لا تقدّر بثمن حول مجموعة مختلفة من المواضيع المتعلّقة بالمنطقة. لقد ظهر اسم جلفار (رأس الخيمة) في وثيقة هولندية يعود تاريخها إلى عام 1634م ضمن نصّ يشير إلى عرض لتقديم المساعدة إلى العرب الذين كانوا يقاتلون البرتغاليين هناك وفي مسقط أيضاً. وتؤكّد المذكّرة التي يعود تاريخ كتابتها إلى عام 1646م، أنّ ساحل شبه الجزيرة العربية كان له دوره في نقل البضائع بحراً إلى مسافات وأنحاء بعيدة، وتشير تلك المذكّرة إلى وصول سفينة من جلفار إلى البصرة محمّلة بالسكّر.

وثمة روايات مهمّة موجودة في الوثائق الهولندية تتعلّق ببروز الحكم القاسمي؛ فقد ورد ذكر الشيخ رحمة بن مطر على أنّه أمير جلفار بعد عام 1718م بقليل؛ عندما برز دوره في حصار جزيرة هرمز، كما أشير إليه مرة أخرى عام 1728م كأحد أغنى وأكثر التجّار العرب نفوذاً وكحاكم لجلفار. وبعد ذلك بسنوات عديدة أكّدت الوثائق الهولندية أنّ نادر شاه قد اعترف بالشيخ رحمة على أنّه الحاكم الشرعي والوريث لجلفار 1740. وقد وصف تيدو فريدريك فان كنيبهاوزن – المقيم في وكالة شركة الهند الشرقية الهولندية في جزيرة خرج- جلفار على أنّها "مدينة كبيرة، محصّنة على الطراز المحلي، وأنها مزوّدة ببعض المعدّات الحربية، وتسكنها قبيلة من "الهولة" تدعى القواسم. وأضاف في تقريره أنّ إمام مسقط نفّذ عدة حملات على هذا المكان من قبل، ولكنّها باءت جميعها بالفشل، وذلك بسبب عدم مقدرته للقيام بأيّ شيء ضدّ شيخ القواسم الذي يدعى تشافل أو رحمة بن مطر، الذي كان يسانده عدة قبائل من البدو أو عرب الصحراء. والشيخ رحمة هذا هو في الوقت الحالي الأقوى بين حكّام الهولة، فلديه قوة من أفراد شعبه يبلغ عددهم 400 رجل مسلّحين بالبندقيات اليدوية المعروفة بـ"أم فتيلة" في صور التي فيها ميناء جيّد حيث تتمكّن السفن الكبيرة من الرسو فيها، كما أنّ هناك أكثر من 60 سفينة معظمها كبيرة ومزوّدة جيّداً، كانت تبحر حتى ميناء مخا".


لقد أصبح الهولنديون في الربع الأوّل من القرن السابع عشر، أفضل الجامعين والمحرّرين للخرائط والبيانات البحرية والكتب المتعلقة بالإبحار، إذ أسهم ذلك إسهاماً كبيراً في رسم خرائط الخليج. وتشير الأطالس البحرية والبيانات والرسومات والخرائط التي جمعها سادة القرن السابع عشر ونشرتها دور النشر الهولندية الشهيرة، إلى أنّ الهولنديين تولّوا مركز القيادة حتى عام 1675م، وتحتوي الرحلات الاستكشافية القديمة التي قام بها الهولنديون خلال منتصف القرن السابع عشر إلى المناطق الداخلية من الخليج وعبر شبه جزيرة مسندم عدةَ إشارات مهمة إلى المدن والموانئ الواقعة في دولة الإمارات العربية المتحدة الحديثة وعمان. وتعود أهمية الحملات القائمة إلى شبه جزيرة مسندم إلى أنّها تقدّم أوّل وصف مفصّل عن المنطقة. وفي فترة (1644-1645م) قامت السفينة الهولندية "زيميو" Zeemeeuw وتعني النورس باكتشاف ساحل الخليج الجنوبي بين خصب ودبا. ويعتبر الرسم الذي رسمه قائدها القبطان كليس سبيلمان لخليج دبا وللمدينة، أحد أقدم الرسومات لموقع في دولة الإمارات العربية المتحدة الحديثة. وقامت السفينة القديمة "ميركات" بقيادة القبطان جاكوب فوجيل برحلة من غمبرون إلى مسقط عام 1666م، وبعد هذه الرحلة كتب تقريراً مفصّلاً عن كلّ ما شاهده عبر الساحل بين خصب ومسقط، كما ترك رسماً وخريطة لخليج مسقط، وكذلك أشير إلى كل من دبا وخورفكان والبدية وكلباء ضمن الأماكن الأخرى، وأضيف إليها معلومات أخرى مفصّلة عن أسلوب الحياة فيها. وتؤكّد الإشارات المهمّة إلى جزر أسفل الخليج ضمن سجلاّتهم أنّ البحارة الهولنديين قد اكتشفوا جزيرة طنب، أما جزيرة أبو موسى فقد ورد ذكرها أوّلاً في خريطة هولندية عام (1645-1646م)، على حين ورد ذكر جزيرة صرّي القريبة منها لدى البحارة الهولندييين عام 1646م. وفي إبريل 1651م وصف القبطان بوداين من يخت Popkensburg رحلاته بين جزر طنب الكبرى، والصغرى، وأبوموسى.

 

العهد البريطاني

العهد البريطاني

تأسّست شركة الهند الشرقية عام 1600م، وانحصرت أعمالها في البداية عام 1616م في ممارسة الأعمال التجارية في بلاد فارس عبر جاسك. وفي العام التالي أسّست وكالتين في المناطق الداخلية الواقعة في شيراز وأصفهان. وفي عام 1617م حصلت الشركة على مرسوم "فرمان" من الشاه عباس، ملك الفرس، يمنحها احتكارَ تجارة الحرير من الموانئ الفارسية. وقد افتتح ممثّلو الشركة وكالتهم الأولى في ساحل الخليج عام 1623م في بندر عباس "غمبرون" على ساحل فارس الجنوبي، إثر الانتصار الفارسي البريطاني على البرتغاليين عام 1622م. تحوّلت بعد ذلك تجارة هرمز إلى بندر عباس فأصبحت بذلك المقرّ الرئيس للنشاطات التجارية البريطانية في الخليج للسنوات المئة والخمسين التالية.

بدأ ازدهار الثروات البريطانية المحدودة مع انحدار تجارة الهولنديين؛ إلاّ أنّ التنافس الإنكليزي- الفرنسي على السيادة في الهند والخليج قد أدّى إلى فترة من عدم الاستقرار والثبات. وقد نتج من الاضطرابات السياسية والتغيّرات السلالية المستمرّة في بلاد فارس خلال النصف الأوّل من القرن الثامن عشر، تعرّض مكانة البريطانيين في بندر عباس- والذين كان اهتمامهم الرئيس محصوراً في التجارة- إلى المزيد من الاضطراب وعدم الاستقرار. وفي عام 1763م، فتحت الشركة "مقرّاً لإقامة" مسؤول بريطاني في بوشهر؛ وقد تمكّنوا - تحت إشراف "المقيم البريطاني"- من احتكار الموارد الصوفية إلى بلاد فارس، لإبعاد الدول الأوروبية الأخرى. كان ذلك بداية لفترة مِئَتَي عام تقريباً من السيادة البريطانية على الصعيدين التجاري والسياسي في المنطقة بعد انهيار مكانة البرتغاليين والهولنديين والفرنسيين كما أنّها حدّدت بداية المقيمية السياسية البريطانية في الخليج.

 منذ أواخر القرن الثامن عشر فصاعداً حلّت شركة الهند الشرقية محلّ الوكالات التابعة للشركة شبكةٌ معقّدة من المقيميات والوكالات التي أصبح دورها الرئيس سياسيًّا كليًّا، إذ حُصِرت أهدافهم الرئيسة في حماية البحر والطرق البرية إلى الهند، وحماية المصالح الاستعمارية البريطانية من تدخّل القوى الأوروبية الأخرى الآخذة بالنموّ. وقد أُنشئت بين عامي ( 1763 - 1947م) المقيميات والوكالات في بوشهر ومسقط، والبصرة وبغداد، والبحرين والكويت والشارقة، وحوفظَ عليها.

أدّى سقوط سلالة الصفويين في إيران وانهيار اليعاربة في عمان إلى حالة من الفوضى والاضطرابات، ثمّ إلى فراغ سياسي في الخليج، وذلك في العقود الأولى من القرن الثامن عشر. وقد بدأت الجماعات العربية البحرية التي فرَّتْ منذ قرن خلال النظام البرتغالي هناك، بالنزوح والهجرة من المناطق الداخلية من شبه الجزيرة العربية وعُمان إلى الساحل واستئناف نشاطاتها التجارية فيه. وقد أصبحت المواقع الجديدة التي استقرّت فيها النواةَ والمركزَ الرئيس لدول الخليج العربية الحديثة. في أوائل القرن الثامن عشر، كان كلّ من القواسم واتحاد بني ياس وسلالة آل بوسعيد وعاصمتهم مسقط، يمثّل الحركات السياسية الثلاث البارزة في جنوب شرقي شبه الجزيرة العربية. ومع مرور الوقت، أصبح القواسم - وقاعدتهم الرئيسة رأس الخيمة - تجّاراً ناجحين وحازوا السيادة بين القبائل في المنطقة كاتحاد قوي جدًّا. لم يكن هناك مَن يُنافسهم في المنطقة، ولبعض الوقت تمكّنوا من السيطرة على المناطق النائية التابعة لرأس الخيمة. وكان لديهم موانئ على جانبي الجهة الجنوبية من الخليج، في الشارقة ورأس الخيمة ولنجه ولافت وباسيدو.

لم يكن الخليج خلال تلك الفترة آمناً؛ فقد بدأ القواسم يتحدّون السيادة العمانية في البحر؛ لانتزاع نصيب أكبر من التجارة الخليجية والهندية والإفريقية التي نتج منها صراع بينهم وبين حكام آل بوسعيد لكسب السيادة والتفوّق. ونتيجة لمخاوف البريطانيين من هجوم فرنسي محتمل على ممتلكات شركة الهند الشرقية، أقاموا تحالفات مع حاكم مسقط وشاه فارس. وقد نشأ نتيجةً لتزويد عمان بالأسلحة والذخيرة، صراع مع القواسم حول المصالح، فقد كان هؤلاء ينظرون إلى البريطانيين بكثير من الشك لأسباب سياسية واقتصادية ودينية. ولما أيقن البريطانيون أنّ القواسم يهدّدون السلام البحري والطرق التجارية البحرية التابعة لهم، أبدوا رغبتهم الخاصة في السيطرة على الطرق التجارية البحرية الواقعة بين الخليج والهند، والتي أدّت إلى تفاقم الخلافات بينهم. وفي عام 1806م توصّل البريطانيون والقواسم إلى اتفاقية "القلنامة"، وبموجبها اتفق الطرفان على إقامة السلام بين الجانبين واحترام كلّ طرف رعايا الطرف الآخر وممتلكاته. ويمكن القول: إنّ تلك الاتفاقية "القلنامة" كانت تشكّل بداية العلاقات البريطانية الرسمية مع المنطقة التي تكوّن حاليًّا دولة الإمارات العربية المتحدة، إلاّ أنّ أعمال الهجوم على الملاحة البريطانية- رغم إبرام تلك الاتفاقية- لم تستمرّ فحسب بل كانت تزداد تدريجيًّا.

كانت السلطات البريطانية خلال السنوات الأولى من تورّطهم في شؤون الخليج، قد تبنّت الاعتقاد الخاطئ بأنّ القواسم كانوا يمثّلون السبب الرئيس لكافة الأعمال غير القانونية القائمة في البحر؛ ولذلك قاموا بحملات ضدهم وضدّ حلفائهم أيضاً. لكنّ أعضاء طبقة المسؤولين العليا قد تراجعوا عن ذلك الاعتقاد. وفي عام 1809م وقع هجوم على رأس الخيمة -وهو ميناء القواسم الرئيس- وعلى لنجه ولافت وغيرها من قواعد القواسم على الساحل الفارسي، واستمرّت المنازعات من حين لآخر، وأخيراً دُمِّرت رأس الخيمة عام 1819م نتيجة حملة بريطانية بحرية ضدّها، وبعد سقوطها تحوّلت الحملة إلى موانئ أخرى، حيث دُمِّرت الحصون والمعاقل والسفن الكبيرة في فشت، والشارقة وأم القيوين، وعجمان. لقد أزال إخضاع رأس الخيمة آخر الآثار لأيّ تحدٍّ للسيطرة البريطانية على مياه الخليج. وفي عام 1820م أبرم البريطانيون معاهدة السلام العامة مع شيوخ عرب الساحل، وافق الحكام بموجبها على وقف الأعمال العدوانية في البحر نهائيًّا، وفرضوا –أيضاً- حظراً على بناء السفن الكبيرة، وتشييد التحصينات عبر الساحل، وإضافة إلى كلّ ذلك تضمّنت المادة التاسعة من هذه المعاهدة أوّل إشعار مدوّن ضمن معاهدة رسمية بإنهاء تجارة العبيد. لقد منحت بنود تلك المعاهدة البريطانيين الحق في ضبط الأمن في بحار أسفل الخليج، وحدّدت نقطة تحوّل للمصالح البريطانية في المنطقة.

 افتتحت اتفاقية عام 1820م عهداً من العلاقات الرسمية بين بريطانيا ودول الخليج، وأمناً عامًّا على نطاق واسع، رغم عدم اكتماله بأي شكل من الأشكال. كانت الشروط العامة التي وُضِعَت في معاهدة عام 1820م، قد عملت على تكوين أسس كافة الاتفاقيات اللاحقة بين بريطانيا العظمى ومشيخات الساحل. لقد وضعت السلطات البريطانية السياسةَ التي كان يجب اتباعها تجاه الدويلات العربية كنظام "للسيطرة الثابتة المقرونة بالتعاملات الودية"، وحدث ذلك بقليل من التغيّرات في الفترة المتبقّية من ذلك القرن. كان المقيم السياسي في بوشهر مسؤولاً عن شؤون المنطقة كلّها، رغم أنّ المصطلح المتّبع "المقيم السياسي" لم يكن يُستخدم قبل منتصف القرن. وفي عام 1822م طُلب منه في بوشهر أن يقوم بدراسة النظام السياسي في الخليج، وإعادة تقارير الأنباء المفصّلة إلى رؤسائه. وتلا ذلك تأسيس "الوكالات المحلية" في موانئ عربية معيّنة لتمثيل البريطانيين، والحصول على قنوات الاتصال مع شيوخ الساحل. وفي العشرينيات من القرن التاسع عشر كان يوجد "وكلاء محلّيّون" في كلٍّ من: مسقط، والشارقة، والبحرين على الجانب العربي، وأيضاً في: لنجه، وشيراز، وأصفهان، وموغو في بلاد فارس.

 ظهرت بعض النتائج الإيجابية بعد عام 1820م من ارتفاع نسبة تجارة اللؤلؤ، وغياب الهجمات على النقل البحري الأجنبي، إلاّ أنّ المعاهدة رغم ذلك لم تؤدّ إلى وقف تامّ للحروب بين القبائل العربية في البحر؛ ولهذا السبب قام البريطانيون عام 1835م بإقناع حكام أبوظبي، ودبي، والشارقة، وعجمان للتوقيع على صلحٍ بحريّ تُمنع فيه كافّة الأعمال العدوانية والحروب في البحر في موسم الغوص. وما لبث شيخ أم القيوين أن وقّع على تلك الاتفاقية في السنة التالية. ومنذ العشرينيات من القرن التاسع عشر، كان المقيم السياسي يقوم بجولة سنوية إلى الجانب العربي من الخليج، وبعد عام 1836م أصبحت تلك الجولة أكثر ضرورةً وأساسية أيضاً، إذ كانت تستهدف تجديدَ الصلح البحري لعام 1835م. وفي السنوات الثماني عشرة التالية، كان هناك سلسلة من معاهدات الصلح البحرية شبيهة بتلك القائمة عام 1835م، وقد نُفِّذ صلح مدّته عشر سنوات عام 1843م وبدأت القوّات البحرية الهندية بحراسة مغاصات اللؤلؤ ومراقبتها كل عام، إلاّ أنّ الاضطرابات أصبحت بعد عام 1843 م نادرة ومحدودة.

وبعد انتهاء صلح عشر السنوات وافق الشيوخ -بتوصيات من المقيم السياسي- على إقامة صلح دائم في البحر، وفي عام 1853م، وُقِّع على معاهدة السلام البحري الدائمة، وافق الشيوخ بموجبها على وقف تامّ للأعمال العدوانية في البحر، وعلى إقامة "صلح بحري تام... ودائم". كان دور البريطانيين محدوداً اقتصر على الأمن البحري؛ ومن هذا المنطلق لم يكن لديهم الرغبة في التدخّل بشؤون المشيخات الداخلية. ونتيجة لهذا الصلح، أصبحت المنطقة معروفة في الوثائق البريطانية السياسية بـ"الساحل المتصالح" كما كان يشار إليها أيضاً "بعمان المتصالح". من ناحية أخرى قامت الحكومة البريطانية بإبرام أربع معاهدات مختلفة مع شيوخ الساحل المتصالح خلال أعوام ( 1838م، 1839م، 1847م، 1856م)، للقضاء على تجارة العبيد التي كانت آخذة في الازدياد رغم شروط معاهدة عام 1820م، وقد حقّقت تلك المعاهدات المختلفة تحسّناً في الوضع. ومع إنشاء خطوط ومحطات للبرق عام 1864م في مناطق مختلفة في الخليج، أو قربه، حصل البريطانيون على ضمان خطّي من شيوخ الساحل المتصالح لحمايتهم؛ وذلك بإضافة مادة إلى الصلح البحري الدائم لعام 1853م.

كانت بريطانيا في أوج قوّتها في السبعينيات والثمانينيات من القرن التاسع عشر عندما دخلت قوّات جديدة الساحةَ شكّلت تحدياً لسيادتها غير المتنازع فيها في عمان المتصالح. وخلال تلك الفترة قام الأتراك بمحاولات متكرّرة لتثبيت سلطتهم على الساحل العربي، بينما أبدى الفرس اهتمامهم بالسيطرة قليلاً على الساحل المتصالح. كذلك دفعت النشاطات الفرنسية في مسقط وعلى الساحل المتصالح خاصة خلال السنوات القليلة التالية، الحكومةَ البريطانيةَ للدخول في اتفاقيات مانعة مع مشيخات الخليج. لقد ألزمت الاتفاقيات المانعة لعام 1892م شيوخ الساحل المتصالح بعدم الدخول في اتفاقيات أو إجراء اتصالات مع أية قوة أو دولة أخرى عدا الحكومة البريطانية. ومقابل ذلك تعهّد البريطانيون بتحمّل مسؤولية الدفاع عن الإمارات من أيّ عدوان خارجي. لقد مثّلت الاتفاقيات المانعة آخر طبقة في بناء المعاهدة التي أنشأها البريطانيون في الخليج في القرن التاسع عشر، كما استمرّت حجر الزاوية للسيادة البريطانية في الخليج حتى انسحابهم من المنطقة عام 1971م.

كانت منطقة الخليج قد أصبحت في فترة: ( 1892 - 1914م) مسرحاً للمنافسات المكثّفة بين القوى والدول الأوروبية. فقد سعى كل من الفرنسيين والألمان والروس للحصول على حرية مشاريعهم التجارية، فتحدّوا حقّ بريطانيا باعتبار الخليج "بحيرة بريطانية". إضافة إلى ذلك كان تورّط الفرنسيين في تجارة الأسلحة في المنطقة قضيّةً ذات اهتمام خاص عند البريطانيين. وفي عام 1902م تمكّنت السلطات البريطانية من انتزاع ضمان من زعماء الساحل المتصالح بمنع استيراد الأسلحة من مناطقهم المختلفة وتصديرها. وفي السنة التالية قام اللورد كيرزون نائب الملك في الهند بزيارة إلى المنطقة؛ لإظهار السلطة والسيادة ردّاً على زيارات السفن الحربية الروسية والفرنسية لها. وكان قد عُقد اجتماعٌ كبير في الشارقة على متن السفينة "أرغونوت" Argonaut -  وهي أكبر سفينة تظهر في الخليج قبل الحرب العالمية الأولى- أعلن فيه اللورد كيرزون بكلّ صراحة -بحضور جميع زعماء الساحل المتصالح- أنّ الحكومة البريطانية قد أصبحت تمارس السيادة المطلقة لحمايتهم وأنّ زعماء الساحل المتصالح ليس لهم أيّ علاقة بدول وقوى أخرى. إضافة إلى ذلك صرّح أنّه رغم أنّ السياسة البريطانية التي تقضي بعدم التدخّل في شؤونهم الداخلية، إلاّ أنّ القتال بين الحكّام برًّا، ليس مقبولاً بسبب القيود المفروضة على الحروب البحرية؛ لأنّها توازي إلغاء روح المعاهدة التي قد وُقِّعت. وقد حقّق البريطانيون انتصارهم بمزيج من الدبلوماسية والإكراه، كما ضمنوا اعترافاً رسميًّا بسيادتهم في المنطقة، وبتفوّقهم على الفرنسيين والروس والألمان والعثمانيين.

كانت منطقة الخليج خلال القرن التاسع عشر مهّمة للبريطانيين في إستراتيجيتهم الدفاعية في الهند؛ فالسياسة البريطانية تقضي بتحقيق السلام والمحافظة عليه في البحر والقضاء على تجارة العبيد بالقوة، ولكن عدم تورّط الحكومة في الشؤون الداخلية للإمارات لم تكن ذات فائدة للمنطقة. ومع إهمال قضية التعليم والعمل على تحسين وضع السكان المحليين عامة، نشأ جوّ من عدم التفاهم ومن الكراهية الفطرية. ومع نهاية القرن بدأ موقف البريطانيين وقراراتهم في التغيّر تدريجيًّا؛ لتفاعل العديد من القوى والعوامل؛ فقد شهدت السنوات التالية للحرب العالميّة الأولى عدة تغيّرات اقتصاديّة وسياسيّة وثقافيّة على الساحل المتصالح انعكست ضمن ردود فعل الحكّام والشعب تجاه السياسة البريطانية. وأدّى انتشار التعليم على الساحل، ونموّ القومية العربية في المنطقة، وتوقّعات اكتشاف النفط إلى حثّ بريطانيا على إبداء اهتمام أكبر بالشؤون المحليّة.
كان تدخّل بريطانيا في شؤون الدول المتصالحة الداخليّة كبيراً خلال السنوات الواقعة بين الحربين العالميتين؛ فقد حصلت "الخطوط الجوية الملكيّة البريطانية" على حقّ الهبوط في الشارقة مع حلول عام 1932م، وفي السنة نفسها أسّست محطة لاسلكي على الساحل، وبعد ذلك بفترة حصلت على تسهيلات لتعبئة الوقود، وعلى مرسى بحري من شيخ دبي، بينما سمح شيخ أبوظبي لهم -بعد إقناعه- بتأسيس مقرّ للهبوط في جزيرة صير بني ياس، وآخر بالقرب من أبوظبي. وعلى الجبهة الإداريّة، كان تحويل مسؤوليات المقيم السياسي في بوشهر -الذي لم يعد قادراً على التعامل بكلّ كفاءة مع شؤون الساحل المتصالح- إلى الوكيل السياسي في البحرين "انتقالاً تاريخيّاً للمصالح البريطانيّة في الخليج من الساحل الفارسي -حيث استمرّت أكثر من قرن واحد- إلى الجانب العربي". وبعد الحرب العالميّة الثانية بدأت بريطانيا تلعب دوراً داخليّاً أكثر فعاليّة مع بداية الوكالة السياسيّة في الشارقة والتي تحوّلت فيما بعد إلى دبي عام 1953م. وتشجّع الشيوخ لأن يقبلوا بنصيحة ومساعدة الوكيل السياسي.

كانت أهم حادثة عملت على تغيير مكانة المشيخات المتصالحة في الإستراتيجيّة البريطانيّة، توقيع امتيازات النفط منذ الثلاثينيّات من القرن العشرين؛ فقد قدّمت توقّعات اكتشاف النفط وإنشاء طريق جويّ على الساحل المتصالح بُعداً جديداً في الاعتقاد البريطاني عن الخليج. وفي وجه التنافس الناشئ بين قوى أجنبيّة أخرى، حصلت بريطانيا على تعهّدات من زعماء الساحل المتصالح لتحويل سلطتهم وسيطرتهم لمنح امتيازات النفط في مناطقهم إلى الحكومة البريطانية، وأيضاً عدم منح الأجانب امتيازات مصرفيّة. ونتيجة للتوقيع على تلك الاتفاقيات المتعلّقة بامتيازات النفط، أصبح من الضروري تعيين الحدود غير المرسومة قبل ذلك، والتي أدّت إلى انفجار المنازعات القائمة بين القبائل، وأصبحت حاسمة بعد الحرب العالميّة الثانية خاصّة؛ فأصبح للبريطانيين منذ خمسينيات القرن العشرين يدٌ في تعيين الحدود ورسمها؛ لضمان متطلّبات حماية شركات النفط التي كانت تقوم بأعمال التنقيب في المناطق الداخليّة من الإمارات المتصالحة.

تحوّلت أهميّة الإمارات المتصالحة مع بداية إنتاج النفط وتصديره في بداية الستينيات، ضمن الإستراتيجية البريطانية تحوّلاً دراماتيكيًّا. ومع أنّ البريطانيين غادروا الهند عام 1947م، لكنّ الإمارات المتصالحة ظلّت منطقة حيوية للمصالح البريطانية الاستعمارية من خلال ممارستهم لحقّهم الخاص. وقد أدّى ذلك بدوره إلى تحوّل أساسي في السياسة البريطانية التقليدية من عدم التدخّل إلى تدخّل فعّال في الشؤون المحليّة. وفي عام 1951م أسسّ البريطانيون دورية عمان المتصالح -كشّافة ساحل عمان فيما بعد- كقوة حافظة للسلام وللمساعدة في اكتشاف النفط في الداخل، ولعبت تلك القوات دوراً بارزاً عام 1955م في النزاع القائم بين أبوظبي والمملكة العربية السعودية في أزمة البريمي. وفي عام 1952م تأسّس مجلس الإمارات المتصالحة، وهو مجلس استشاري يتألّف من حكّام الإمارات السبع، لدفع فكرة الاتحاد بينهم، ليُصبح في عام 1965م "مجلس الإمارات المتصالحة التطويري". وقد وسّع المجلس نشاطاته لتشمل المصالح الداخليّة، وعمل على تصعيد عمليّة التطوير في المنطقة. وفي غضون اجتماعاتهم المتعدّدة، تمكّن الشيوخ من إيجاد قضيّة مشتركة مهّدت الطريق أمام قيام دولة الإمارات العربية المتحدة عام 1971م. 

أدّى ظهور النفط في أبوظبي عام 1962م، ثمّ في دبي والشارقة، إلى أن تحتلّ المنطقة مكانةً بارزة في الشؤون الاقتصادية والسياسية العالمية. وقد واكبَ التطوّرَ السريع والتحديث الذي أحدثه ثراء النفط، تطوّرٌ داخلي مهم هو الرغبة في الاتحاد بين الإمارات، التي أصبحت فيما بعد أقوى وأشدّ بعد أن أعلنت الحكومة البريطانية بدايةَ عام 1968م نيّتَها للانسحاب من الخليج مع نهاية عام 1971م. وفي 30 نوفمبر 1971م، انسحب البريطانيون من الإمارات المتصالحة، وكان ذلك الانسحاب نهاية لسيادة العهد البريطاني في المنطقة. ومن الجدير ذكره أنّ "الإمارات المتصالحة كانت أوّل منطقة عربية تفرض بريطانيا سلطتها عليها عام 1820م، وآخر منطقة تتركها عام 1971م".

قيام الاتحاد

قيام الاتحاد

أكّد الشيخ زايد -فور تسلّمه سدّة الحكم في السادس من أغسطس عام 1966م بإمارة أبوظبي- مدى أهمية الاتحاد، وقال معلّقاً: "نستطيع بالتعاون وبنوع من الاتحاد، اتباع نموذج الدول الأخرى النامية". لقد نمت أهمية الاتحاد والحاجة إلى العمل في التعاون مع الإمارات الأخرى، وترعرعت في فكر الشيخ زايد منذ البداية. ورغم إدراكه التام بأنّ الاتحاد كان مجرّد مفهوم حديث في المنطقة، إلاّ أنّ اعتقاده بإمكانيّة تنفيذه على أسس الروابط المشتركة التي تربط بين مختلف الإمارات، إضافة إلى تاريخ وتراث أبنائها الذين عاشوه معاً لعدة قرون، كان ثابتاً. لقد عمل الشيخ زايد على ترجمة مبادئه وأفكاره عن الاتحاد والتعاون والمساندة المتبادلة إلى أفعال، وذلك بتخصيص جزءٍ كبير من دخل إمارته من النفط لصندوق تطوير الإمارات المتصالحة قبل بداية دولة الإمارات العربية المتحدة كدولة اتحادية.

كانت الحكومة البريطانية قد عانت من ضغوط الظروف الاقتصادية المعاكسة، نتج منها إنهاء كافة المعاهدات لحماية الإمارات المتصالحة عام 1968م، وانسحابها من الخليج نهاية عام 1971م. ومع أنّ هذا القرار المفاجئ كان يهدّد بخلق فراغٍ عسكري وسياسي في المنطقة، لكنّه ساعد –أيضاً- على تقليل العقبات والصعوبات التي كانت عائقاً في طريق المحاولات الأولى لاتحاد الإمارات. لقد أطلق التوقّع الكبير لإنهاء العلاقة الخاصة القائمة بين بريطانيا والإمارات المتصالحة لفترة 150 عاماً الإشارةَ إلى نوع ما من الترابط الذي يتسمّ بالطابع الرسمي الأكثر قوّةً مما كان مقدّماً من مجلس الإمارات المتصالحة؛ ونتيجةً لهذه القوى الجديدة العاملة اتّخذ الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، حاكم إمارة أبوظبي، والشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم حاكم دبي، الخطوةَ الأولى نحو إنشاء الاتحاد. كان يقصد بهذا الاتحاد أن يكون نواةً للوحدة العربية، وحماية الساحل -المتوقّع فيه ثروة النفط- من مطامع الدول المجاورة الأكثر قوة.

كانت نتيجة المبادرة المتّخذة من حاكمَي الإمارتين الرائدتين، عقد اجتماع في الثامن عشر من فبراير 1968م في السميح، على الحدود بين أبوظبي ودبي، وقد وافق الشيخ زايد والشيخ راشد في ذلك اللقاء التاريخي على دمج إمارتَيهما في اتحاد واحد، والمشاركة معاً في أداء الشؤون الخارجية والدفاع، والأمن والخدمات الاجتماعية، وتبنّي سياسة مشتركة لشؤون الهجرة. وقد تُركت باقي المسائل الإدارية إلى سلطة الحكومة المحلية لكلّ إمارة. وعُرفت تلك الاتفاقية المهمة بـ"اتفاقية الاتحاد"، ويمكن اعتبارها الخطوة الأولى نحو توحيد الساحل المتصالح كلّه. وزيادةً في تعزيز الاتحاد؛ ولاهتمام الشيخ زايد والشيخ راشد بتقويته، قاما بدعوة حكّام الإمارات الخمس المتصالحة الأخرى، إضافة إلى البحرين، وقطر، للمشاركة في مفاوضات تكوين الاتحاد.

وفي الفترة من 25-27 فبراير 1968م، عقد حكّام تلك الإمارات التسع مؤتمراً دستوريًّا في دبي. وبقيت تلك الاتفاقية المكوّنة من إحدى عشرة نقطةً، والتي بدأت في دبي، مدة ثلاث سنوا ت قاعدةً للجهود المكثّفة لتشكيل الهيكل الدستوري والشرعي لـ"اتحاد الإمارات العربية" هذا، والذي يتكوّن من تلك الإمارات التسع الأعضاء فيه، وعُقدت في تلك الفترة اجتماعات عدّة على مستويات مختلفة من السلطة، والاتفاق على القضايا الرئيسة في اجتماعات المجلس الأعلى للحكّام، الذي يتكوّن من رؤساء الإمارات التسع. كذلك أجرى نوّاب الحكّام إضافة إلى لجان أخرى مختلفة، مناقشاتٍ رسميةً تتعلّق بتعيين الإداريين من تلك الإمارات ومستشارين من الخارج. وفي صيف عام 1971م أصبح من الواضح أنّه لم يعد لإيران أية مطالب في البحرين، فأعلن الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة استقلالَ الجزيرة في 14 أغسطس 1971م، تبعتها قطر في 1 سبتمبر 1971م.

عملت السلطات في الإمارات السبع المتصالحة على وضع بديلٍ لاتحاد الإمارات العربية. وفي اجتماعٍ عُقد في دبي في 18 يوليو 1971م، قرّر حكّام ست إمارات من الإمارات المتصالحة، هي: أبوظبي، ودبي، والشارقة، وعجمان، وأم القيوين، والفجيرة، تكوين الإمارات العربية المتحدة، وكانت رأس الخيمة، وهي الإمارة السابعة، في حالة من التردّد. وفي 2 ديسمبر 1971م أُعلن رسميًّا تأسيس دولة مستقلة ذات سيادة، وبعد ذلك، أي في 10 فبراير 1972م، انضمّت رأس الخيمة إلى الاتحاد، فأصبح الاتحاد متكاملاً باشتماله على الإمارات السبع. لقد أصبحت هذه الدولة الاتحادية المؤسسة حديثاً، تُعرف رسميًّا بـ" الإمارات العربية المتحدة". واتُّفِق رسميًّا على وضع دستور مؤقّت يعتمد على نسخة معدّلة من نصّ الدستور السابق لإمارات الخليج التسع، وتحديد المصلحة العامة لدولة الإمارات العربية المتحدة على أنّه الهدف الأعلى لها. تضمّن الدستور المؤقّت 152 مادة، مكوّناً من مقدّمة وعشرة أقسام، ويعمل على تحديد القوى المتعلّقة بالمؤسسات الاتحادية، بينما ظلّت القوى الأخرى تحافظ على حقّ امتياز الحكومات المحلية لكلّ إمارة من الإمارات، والسلطات المركزية الخمس المحدّدة في الدستور هي :
- المجلس الأعلى، ويتكوّن من حكّام الإمارات السبع؛ وهو أرفع سلطة دستورية في الدولة، ويقرّ التشريعات الاتحادية فيها، وأعلى المؤسسات التي ترسم سياستها العامة.
 - الرئيس ونائب الرئيس في الدولة الاتحادية.
 - مجلس الوزراء.
 - المجلس الوطني الاتحادي؛ وهو مجلس استشاري يتكوّن من 40 عضواً يتمّ اختيارهم من مختلف الإمارات وفق عدد السكان في كلّ منها، وهناك ثمانية مندوبين من كلّ من إمارة أبوظبي ودبي، وستة من كلّ من الشارقة ورأس الخيمة، وأربعة من كلّ من الفجيرة وعجمان وأم القيوين.
 - السلطة التشريعية أو القضائية؛ وتتكوّن من عدد من المحاكم، على رأسها المحكمة الاتحادية العليا.

تمّ انتخاب حاكم أبوظبي، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، من قبل الحكام ليكون أوّل رئيس لدولة الإمارات العربية المتحدة، وهو منصب أعيد انتخابه بعد انتهاء فترة خمس سنوات. وكان حاكم دبي آنذاك الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، قد تمّ انتخابه ليكون نائباً للرئيس، وهو منصب استمرّ فيه حتى وفاته عام 1990م، وبعدها تمّ انتخاب ابنه الأكبر الشيخ مكتوم بن راشد آل مكتوم ليخلفه في ذلك المنصب. وفي اجتماع عُقد في 20 مايو 1996م، وافق المجلس الأعلى للاتحاد على نصّ معدّل للدستور، جعل من دستور البلاد المؤقّت، الدستور الدائم لدولة الإمارات العربية المتحدة، وعُيّنت أبوظبي عاصمة الدولة.

لقد بدأت دولة الإمارات العربية المتحدة برنامجها السياسي كاتحاد مكوّن من سبع إمارات إقليمية مختلفة من حيث مساحتها ومواردها الطبيعية، وعدد سكانها ومدى ثرائها. في حين تشترك جميعها بتاريخ وتراث واحد. وأبوظبي هي الكبرى مساحة، وتتمتع بأكبر مخزون من النفط، وهي لذلك تموّل المؤسسات الاتحادية بنسبة كبيرة. كانت دبي حتى عام 1971م، الأكثر ارتباطاً في الذاكرة بكونها المدينة – الدولة، وقد استمرّت في النموّ كمحور للتجارة والأعمال في المنطقة. ومن ناحية أخرى أنعم الله على بعض الإمارات الأخرى بموفور نسبي من المياه والأراضي الصالحة للزراعة، ورغم ذلك التفاوت، كان التقدّم المثير للدهشة الذي سجّلته دولة الإمارات العربية المتحدة، ممكناً نتيجة لتحقيق النجاح في إقامة الاتحاد، وتعاون قادته، وروح الانسجام والتعاون الذي كانوا يعملون به لتحقيق الأهداف المشتركة.

لقد تعهّدت السلطات المركزية باستخدام ثراء البلاد من مواردها الطبيعية واجباً رئيساً لمصلحة دولة الإمارات العربية المتحدة كلّها، وساهم ذلك إلى حدّ كبير في نجاح الاتحاد وديمومته. إنّ حكّام دولة الإمارات العربية المتحدة التي تعدّ حاليًّا ضمن أعلى مجموعة من الدول المصدّرة للنفط والغاز على المستوى العالمي، قد استخدموا ثراء النفط برؤية محدّدة لتحسين معيشة كافة أفراد الشعب فيها، وتشييد بنية تحتيّة تساند مجموعة نامية من النشاطات والصناعات غير النفطية. كان الشيخ زايد- منذ البداية- يعبّر عن اقتناعه التام والثابت وإيمانه الراسخ بأنّه "لا نفعَ للمال إذا لم يسخّر لخدمة الشعب"، وكانت الخدمات الاجتماعية التي توفّرها الوزارات الاتحادية وخاصة التعليم المجاني، والإسكان، والرعاية الصحية، والمساعدات الاجتماعية للإماراتيين، قد مهّدت الطريق أمام تطوّر ونموّ سريع في جميع أنحاء الدولة. وأخيراً -ومع ظهور التكنولوجيا العصرية- تحوّلت دولة الإمارات العربية المتحدة من كونها دولة نامية إلى دولة حديثة في أقلّ من ثلاثة عقود.

وثمّة عامل آخر هام أسهم في الاستقرار السياسي الذي تتمتّع به دولة الإمارات العربية المتحدة منذ نشأتها رسميًّا، وهو سياستها الخارجية التي خطّطها ونفّذها قادتها بنجاح تام، والتي تستهدف -بدرجة رئيسة- "دفعَ المصالحة والعمل لتهدئة الأوضاع المؤدية إلى المواجهات والمنازعات". كانت حماية سيادة البلاد واستقلال مواطنيها ضمن الهيكل الأوسع لأمن الخليج حجر الزاوية التي ترتكز عليها سياسة دولة الإمارات العربية المتحدة الخارجية. وثمة عنصر رئيس مكوّن لتلك السياسة هو العمل على توسيع نطاق الأفق السياسي في البلاد تدريجيًّا، وتنمية العلاقات مع القوى الدولية، والعمل على التعاون مع المؤسسات الدولية. وهكذا، ما لبثت أن انضمت دولة الإمارات العربية المتحدة بعد بروزها كدولة متكاملة وناضجة، إلى جامعة الدول العربية، وإلى منظمّة الأمم المتحدة، وكانت أيضاً إحدى القوى الدافعة وراء تأسيس منظمة التعاون الإسلامي في السبعينيات من القرن العشرين. ويعكس مجلس التعاون لدول الخليج العربية الذي يتكوّن من دولة الإمارات العربية المتحدة، وعمان، وقطر، والبحرين، والكويت، والمملكة العربية السعودية، والذي تأسّس في القمة التي انعقدت في أبوظبي عام 1981م، مدى عزم دولة الإمارات العربية المتحدة على تعزيز الوحدة والتعاون مع بلدان العالم العربي وتوثيق العلاقات معها.

لابدّ في هذا الإطار من التركيز في دَور المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان – مؤسس الدولة وباني نهضتها - وبصورة خاصة مع تطوّر وازدياد منزلته على الصعيد الدولي، والتي واكبت وضع الدولة في الساحة العالمية؛ فقد برز وسيطاً مُصلحاً في الأحداث في دول مجلس التعاون الخليجي، وأقطار العالم العربي والدول النامية. واستفادت دول فقيرة ومجتمعات عدّة على المستوى العالمي من المساعدات المادية والمالية التي كانت تُمنح لهم منه رحمه الله باسم دولة الإمارات العربية المتحدة، وهذا الأمر إنْ دلّ على شيء فإنّما يدلّ على مدى إنسانيته التي تستمدّ أبعادها من إيمانه الثابت بالإسلام. إنّ القوات المسلحة لدولة الإمارات العربية المتحدة هي القوات الوحيدة غير التابعة لحلف الناتو التي تساعد في حفظ السلام في كوسوفو؛ ولذا، فليس من المستغرب أن يكون سخاء هذه الدولة الصغيرة قد لفت انتباه العالم بأسْره من حيث تقديم المساعدة، وتخفيف آلام ضحايا الكوارث الطبيعية والبشرية.

لقد حظيت الإمارات عامّة، وأبوظبي، ودبي، والشارقة خاصّة، باهتمام عالمي؛ لتقديمها - على مستوى الفرد- الفرص الاقتصادية واسعة النطاق، إضافة إلى التسهيلات الرياضية والترفيهية، والنشاطات الثقافية وتنمية الوعي لحماية البيئة والحياة البرية وتشجيع السياحة. ومن ناحية أخرى فإنّ التقدّم المميّز الذي أحرزته المرأة الإماراتية في كافة مجالات الحياة تشكّل مقياساً هامًّا آخر لقياس مدى تقدّم الدولة كلّها. إنّ فرص المساواة التي منحها دستور الدولة للمرأة قد ساعد النساء فيها للعمل على إثبات وجودهنّ في المجتمع بدرجة واضحة. وللاتحاد النسائي في دولة الإمارات العربية المتحدة - الذي تأسّس في أبوظبي عام 1975م بجهود سموّ الشيخة فاطمة بنت مبارك قرينة رئيس الدولة - إضافة إلى فروعه الأخرى في الإمارات الفضل الأكبر في القيام بدور رئيس في تحرير المرأة. ومهما يكن من أمر فلا بدّ من الإشارة إلى أنّ المعماريين الذين يعملون في تطوير المظاهر العمرانية في دولة الإمارات العربية المتحدة –رغم التحديث العام في الدولة- يأخذون بعين الاعتبار المحافظة على المظاهر التقليدية واستمرارها، وعلى التراث الموروث منذ أزمان بعيدة ويقرّون بأهميته.
يكمن نجاح النظام السياسي في دولة الإمارات العربية المتحدة في أنّها تمثّل مزيجاً فريداً من القديم والحديث، مع التزام فطري بالإجماع والمناقشة والديمقراطية المباشرة. كانت تضحيات ومنجزات الآباء قد ساهمت في بروز الدولة الحديثة بدلاً من الإمارات المستقلّة القديمة. إنّ دولة الإمارات العربية المتحدة هي الدولة الاتحادية الوحيدة في العالم العربي التي لم تبقَ وتستمرّ فحسب، بل إنّها قد نجحت أيضاً في تكوين واستخراج هوية قومية مميّزة مع مرور الزمن. لقد صرّح الشيخ زايد رحمه الله بمناسبة الاحتفال بمرور خمس وعشرين سنة من النجاح الذي حقّقه الاتحاد بكل فخر واقتناع: "إنّ كلّ ما تمّ إنجازه قد فاق توقّعاتنا بعون من الله تعالى، ثم بعزم وإرادة قوية وصادقة، ما يؤكّد أنّه ليس هناك شيء لا يمكن تحقيقه لخدمة الشعب ما دام العزم ثابتاً وقويًّا، وما دامت النيّات صادقة". إنّ اتحاد الإمارات العربية المتحدة لايزال - وسوف يستمرّ بإذن الله- مصدراً لفخر أجيال الإماراتيين الحاضرة والمستقبلة.

هل لديك أي أسئلة؟
إذا كان لديك أي استفسار ، قم بزيارة الأسئلة الشائعة التي تمت الإجابة عنها 
الأسئلة الشائعة

قائمة التنقل

NaFeedback

إعادة التعيين | إرسال

NaHappiness

إرسال
إرسال